ينابيع الأرواح والجان... الماء في الخرافة الفلسطينيّة | أرشيف

نبع قرب مدينة جنين، 1903

 

العنوان الأصليّ: « المعتقدات المتعلقة بالماء في المأثورات الشعبية الفلسطينية».

المصدر: «مجلّة البيان الكويتيّة».

زمن النشر: 1 تشرين الأوّل (أكتوبر) 1981.

الكاتب: نمر سرحان.

 


 

يندر وجود الماء في جنوب فلسطين بصفة خاصّة، ويقتصر وجوده على الواحات والينابيع، ويعيش العدد الكبير من قرى الجبل الفلسطينيّ على استعمال مياه ’الجُمع‘، أي مياه الأمطار الّتي يجري تجميعها في آبار يحفرها الإنسان. بعد انحباس الأمطارK والّذي قد يستغرق من 9 إلى 10 أشهر، تصبح للماء أهمّيّة ما بعدها أهمّيّة، لدرجة أنّ الإنسان في الوسط الشعبيّ، قارَنَ بين الماء وبين روح الإنسان، كما أنّ الماء احتلّ أهمّيّة كبرى من حيث حاجة الإنسان إليه، وبذلك جاء في الأقوال المأثورة: "الميّة ما بِتمُرّ عن العطشان"، و"الميّة ما بتمنعها عن عدوّك".

من خلال ندرة الماء والحاجة الماسّة إليه في بلد يندر فيه الماء، نمت مع الزمن معتقدات وخرافات شعبيّة تبيّن مكانة الماء وتفسّر بعض الظواهر الطبيعيّة الغامضة.

إنّ دراسة هذه المعتقدات تعطينا فكرة عن الطريقة الّتي كان الناس يفسّرون فيها الظواهر الغامضة بالنسبة لهم، وبالتالي فإنّ هذه المعتقدات تشكّل ما يمكن تسميته بالعلم الشعبيّ، وهو نوع من العلم البدائيّ الّذي يستند إلى المعتقدات والمعارف الّتي كان الإنسان بابتكارها يحصل على الراحة النفسيّة من خلال التوصّل لتلك التفسيرات الّتي نسمّيها نحن بـ "خرافات ومعتقدات شعبيّة".

 

ينابيع الأرواح المقدّسة

تُرى، ما هي الينابيع الّتي نمت حولها معتقدات شعبيّة؟ بالتأكيد ليست الينابيع الّتي جرّتها الموتورات لريّ بيّارات البرتقال في الساحل الفلسطينيّ. ذلك لأنّ هذه الينابيع اقترنت بالعلم الصحيح والتكنولوجيا، لكنّ الينابيع الّتي نمت حولها الخرافات هي: أوّلًا، الينابيع الّتي تظهر بشكل مفاجئ في المناطق الجافّة وتمنح الإنسان والحيوان والنبات سرّ الحياة والبقاء والاستمرار. إنّ مثل هذه الينابيع كانت تمثّل سرًّا غامضًا في عقل الفلاح الفلسطينيّ، وكان لا بدّ لمثل هذا السرّ أن يحيّر عقول الناس البسطاء ويدفعهم للتفكير المستمرّ في سبب انفجار النبع وسط أراض قاحلة، وكان لا بدّ من أن تُعزى أسباب ذلك الإنجاز الغامض للعناية الإلهيّة والأرواح الحارسة للمياه، الأرواح الخيّرة الّتي تسخّرها العناية الإلهيّة أو الأنبياء أو الأولياء لخدمة الناس الطيّبين. من هنا نَبَع احترام الماء وتقديسه وقدرته على تحقيق الطهارة باعتباره ثمرة جهد الأرواح الخيّرة. لذلك أيضًا نبتت فكرة تقول بأنّ هذه الينابيع مسكونة، يسكنها وليّ من أولياء الله أو روح خيّرة، ومن أجل ذلك أيضًا، كانت الفلّاحة الفلسطينيّة تتجنّب الذهاب إلى النبع في الصباح الباكر، أو في المساء، أو أثناء الليل، حتّى لا تزعج تلك الأرواح الّتي تسكن تلك الينابيع.

ثانيًا، الينابيع الّتي تظهر في سرداب تحت الصخور، وفي مكان منعزل في الغابة بحيث لا ترى نور الشمس. إنّ مثل هذه الينابيع تشكّل مكانًا لسُكنى الأرواح، والّتي تصوَّرها الوجدان الشعبيّ تعيش في الأماكن الخالية والخَرِبَة.

ثالثًا، الينابيع الّتي تنبجس من داخل الأرض وهي ساخنة، وهذا النوع من الينابيع موجود في فلسطين قرب طبريّا. لقد احتلّت هذه المياه في نفس الإنسان في الوسط الشعبيّ الفلسطينيّ مكانة خاصّة من حيث أنّها صالحة لشفاء بعض الأمراض. وكان لا بدّ من أن يُعْزَى تسخين المياه إلى الجنّ والأرواح الّتي أمرها الملك سليمان بالقيام بتلك المهمّة. وهي تسخّن المياه باستعمال روث الحيوانات، وتتولّى المردة هذه المهمّة، على اعتبار أنّها عمياء وطرشاء، فهي لم تعلم بموت الملك سليمان، وما زالت مستمرّة في مهمّتها حتّى الوقت الحاضر.

رابعًا، الينابيع الّتي تظهر فترة وتختفي أخرى، مثل عين الفوّار، وعين سِلوانْ، وعين سابونا بالقرب من دير غسّانة، رام الله. إنّ الينبوع الأوّل، بحسب المعتقد الشعبيّ، مسكون بواسطة اثنين من الجن، أحدهما حرّ والآخر مستَعْبَد، وهكذا وبالتناوب ينتصر واحدهما على الآخر؛ فعندما ينتصر الحرّ ينبجس الماء، وعندما ينتصر المستَعْبَد يَحْبِسُ الماء. يبدو هذا التفسير الشعبيّ منسجًما مع الأفكار البدائيّة الّتي تصوِّرُ الحياة بأنّها صراع بين الخير والشرّ، بين الملائكة والشياطين، بين الله وإبليس. أمّا ينبوع سلوان فهو مبتلى بجمل هائل تحتلّه روح، وعندما يعطش هذا الجمل يشرب كمّيّة هائلة من الماء، فينبجس النبع. في حين تسكن في عين سَابونا عائلة من الجنّ تسمّى ’عيلة زَغْرُورة‘، وعندما يعطش أفراد هذه العائلة يشربون الماء فيجفّ النبع، وهنا يقول الناس: "وِرْدتُها عِيلةْ زَغرورة".

كلّ هذه التفسيرات محاولة من جانب الناس في الوسط الشعبيّ لتفسير ذلك التناوب؛ أي انطلاق ماء النبع ثمّ انحباسه بصورة دوريّة. وهذه التفسيرات كانت تبعث راحة ما بعدها راحة في نفس الإنسان، إنّها الراحة الناتجة عن معرفة الأسرار الغامضة.

خامسًا، ينابيع الحَصْر، وهي تلك الينابيع الّتي لا ترى أشعّة الشمس طوال أيّام السنة. ويعتقد الناس في الوسط الشعبيّ أنّ مثل هذه الينابيع تدفع بالمياه على الشفاء من ’حَصْر البول‘، على اعتبار أنّ الطاقة الكامنة فيها قادرة على التحوّل إلى طاقة دفع تفكّ الحصار الّذي يمنع البول المحبوس في جسم الإنسان من الحركة في مجراه الطبيعيّ.

سادسًا، الينابيع الّتي يتغيّر لونها في مواسم معيّنة من السنة، ومن هذه الينابيع ينبوع ’بيرعُونَة‘، الّذي يرتفع منسوب المياه فيه إلى الحافّة العليا في يوم العذراء، العاشر من أيلول حسب التقويم اليوليانيّ. إذ تصطبغ الحجارة عند فتحة البئر باللون الأحمر. وكذلك تسكن في نبع أريحا امرأة تأتيها الدورة الشهريّة مرّة في العام ولمدّة عشرة إلى اثنتي عشرة ساعة. وبهذه المناسبة يصطبغ ماء النبع باللون الأحمر؛ فالبئر الأولى تسكنها العذراء، وفي الحالتين تكون الدورة الشهريّة للمرأة سببًا في تلوين ماء النبع، أو ذلك هو التفسير الخرافيّ لتلوّن مياه الينبوعين في وقت ما من السنة.

 

تقديس الماء

تنمو معتقدات خرافيّة حول قداسة الماء وتتركّز مثل هذه المعتقدات حول ينابيع بعينها؛ فهناك اعتقاد مؤدّاه أنّ أربعة مجاري للمياه تنبثق من تحت الصخرة الشريفة في القدس. ونجد في المأثورات الشعبيّة الفلسطينيّة معتقدات مثل امتزاج مياه نبع في فلسطين بمياه بئر زمزم، ومن هذه الينابيع ’حمّام الشفا‘، و’عين أمّ الدرج‘ في سلوان. ثمّة حكاية تتعلّق بحاجّ هنديّ فقد الكأس الّذي كان يشرب منه في بئر زمزم، ثمّ جاء هذا الحاجّ إلى فلسطين وصادف أن كان يستحمّ في ’حمّام الشفا‘ في العاشر من محرّم، وعندما جذب الحمّاميّ الماء من البئر، استخرج الكأس الّذي كان قد فقده الحاجّ الهنديّ في بئر زمزم.

بسبب مثل تلك الحكايات والمعتقدات، نمت مسألة القداسة حول الينابيع، لذلك لا يجرؤ أحد على الاقتراب من نبع دون أن يذكر اسم الله أو اسم الوليّ الّذي يسكنه، خاصّة إذا كان الوقت ليلًا، وإذا لم يفعل الإنسان ذلك، أو أساء للنبع بتلويثه، عاقبته الأرواح الساكنة في النبع.

يجوز لنا الاعتقاد بأنّ مثل هذه المعتقدات كانت سائدة في القديم، إذ كانت هناك ينابيع مقدّسة ومكرّسة لعبادة الآلهة المتعدّدة في فلسطين. من أجل لك ما زالت بعض الينابيع في فلسطين تؤدّي أغراضًا علاجيّة كما كان عليه الحال منذ فجر التاريخ. هنا يحقّ لنا أن نقول إنّ المعتقدات الشعبيّة الحاليّة ما هي إلّا رواسب ديانات بدائيّة ووثنيّة سابقة كانت سائدة في فلسطين. ممّا يؤكّد ذلك أنّه، وحتّى اليوم، ما زال الناس يقدّمون التقدمات للأرواح حارسة المياه؛ فتقدّم الشموع والأزهار لـ ’حمّام ستّنا مريم‘، وتقدّم المصابيح لغير هذا النبع. وتؤدّى صلوات وأدعية ويُحرق البخور عند بعض الينابيع كما هو الحال عند ’نبع جفنا‘، ولا تقترب الينابيع المقدّسة ’امرأة غير طاهرة‘.

هكذا يمكن القول إنّ الخرافات الحاليّة الّتي تنمو حول الينابيع الفلسطينيّة هي استمرار للمعتقدات الدينيّة البدائيّة الّتي كانت سائدة في العهود الوثنيّة، ثمّ المسيحيّة والإسلاميّة. بذلك تصبح دراسة المأثورات الشعبيّة المعاصرة مجرّد حلقة في دراسة التسلسل المعتقديّ الّذي ساد الذهن الشعبيّ في هذه البلاد.

 


 

عَمار: رحلة تُقدّمها فُسُحَة - ثقافيّة فلسطينيّة لقرّائها، للوقوف على الحياة الثقافيّة والإبداعيّة والاجتماعيّة الّتي شهدتها فلسطين في تاريخها المعاصر، من خلال الصحف والمجلّات والنشرات المتوفّرة في مختلف الأرشيفات.